قصة الطوفان من الوجهة الروحية واللاهوتية
أولاً : بعض الاعتراضات على قصة الطوفان والردود عليها:-
الاعتراض الأول:- جاء في (تك 6:6-8): "فحزن الربُ أنهُ عمل الانسان في الأرض وتأسَّف في قلبه فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الأنسان الذي خَلَقُتُهُ. الانسان مع بهائم ودباباتٍ وطيور السماء لأني حزنت أنّي عملتُهم" فالاعتراض هو. كيف يحزن ويتأسف الله على شيء سبق فصنعُه؟
الرد:- ليس المقصود هنا أن الله ندم على صنعه البشر، أي أن الرب لَم يحزن لأنه أحس بالخطأ مِن جانبه ، فهو حاشاه منزّه عن كل خطأ أو خطية ، ولكن المعنى هنا أن الرب غضب على الانسان الذي لَم يقابل الله بالمحبة التي جعلته يعطيه نعمة الحياة والوجود وكل النِعَم الأخرى فزاغ الانسان عن عبادة الرب الحقيقي وسقط في الخطية ، أي بمعنى أنهم نكروا هذه النِعَم والعطايا فحكموا على أنفسهم بالهلاك بأنفسهم .
الاعتراض الثاني:- ورد في (تك 19:6-20): "ومِن كل حيًّ مِن كل ذي جَسدٍ أثنين من كلٍ تُدخِل إلى الفُلك لاستبقائها معك تكون ذكراً وأنثى ، من الطيور كأجناسها ومن البهائم كأجناسها ومن كل دبابات الأرض كأجناسها أثنين من كلٍ تُدخِل إليك لاستبقائها" ويرى المعترضون أن هذا يتناقض مع ماجاء في (تك 2:7-3): "مِن جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعةً سبعةً ذكراً وأنثى ومن البهائم التي ليست بطاهرةٍ أثنين ذكراً وأنثى. ومن طيور السماء أيضاً سبعةً سبعةً ذكراً وأنثى لاستبقاء نسلٍ على وجه كل الأرض".
الرد:- في الوهلة الأولى يظهر تناقضاً بين النصين ، ولكن هذا التناقض يتلاشى عندما نركز على قول الوحي في النص الثاني قائلاً "البهائم الطاهرة" و "البهائم التي ليست بطاهرة" ومعنى الحيوانات الطاهرة هو تلك الحيوانات التي تُقدَّم ذبائح للرب، إذاً فان معنى النص الأول والذي يحدد فيه الرب لنوح أن يأخذ من الحيوانات أثنين أثنين هو لضمان بقاء النسل الحيواني أما في النص الثاني فهو يقصد أمرين هما :-
1- لاستخدام تلك الحيوانات الطاهرة كطعام وغذاء لباقي الحيوانات خصوصاً لتلك المتوحشة منها ، فبدون استبقاء حيوانات إضافية كيف للحيوانات الآكلة اللحوم من البقاء على قيد الحياة طيلة سنة وعشرة أيام؟!
2- الحيوانات الطاهرة كانت تُقَدَّم كذبائح ومحرقات للرب، وعلى هذا فوَجب إبقاء أعداد أكبر منها لاجل هذهِ الغاية ، والدليل على هذا أننا نجد الطوفان في (تك 20:8) التالي : " وبنى نوحٌ مذبحاً للرب . وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة واصعد محرقاتٍ على المذبح" إذاً فكان لابد مِن إبقاء ست أزواج عدا الزوج لأجل هذه الغاية . ومن هنا يبطل الادعاء بالتناقض .
تُظهر قصة الطوفان مدى خطورة الخطية، ومَدى كره الرب لها حتى أنهُ دمّر الانسان تاج خليقته المادية بسببها (تك 7:6): "أمحو عن وجه الأرض الانسان الذي خلقته" ولماذا؟ "لان الأرض امتلأتْ ظُلماً منهم فها أنا مهلكهم مع الأرض" (تك6: 13) ، فعدالة الرب المرتبطة بقداسته تجعل من الله مقاوماً للخطية والشر. ولكن مِن الجدير بالملاحظة أن الرب في هذه الحادثة قد ابتدأ بأول عهد وميثاق بين الله والانسان والذي قد تم بمجئ الرب يسوع ، وفي قصة الطوفان توجد بعض النبوات والرموز إلى العهد الجديد منها:-
1- المياه:- ترمز إلى الصليب (أو موت يسوع على الصليب) فالماء الذي هو مصدر الحياة أصبح وسيلة للموت ، والماء نفسهُ الذي أغرق البشر وكل الكائنات في أيام الطوفان هو ذاتهُ جعل الفُلك يطفو فينجو نوح وكل مَن معهُ من الهلاك، وهذا رمز إلى الصليب الذي دحر الشيطان والخطية وهو في ذات الوقت أنقذ البشر المؤمنين من هذا الموت والهلاك والخطية.
2- الفُلك (السفينة):- ترمز أولاً للرب يسوع الذي حَمَلَ خطايانا ورفعنا بواسطة رفعه على الصليب ، فنوح كشخص أو فرد لايمكن لجسده أن يطفو طويلاً فوق الماء ، فثقل جسده كافٍ لإغراقهِ، ولكن الفُلك هو الذي جعلهُ يطفو أو (يُحمَل) ، بعكس باقي البشر مِن الذين هلكوا آنذاك. ومَن المؤكد أن الآف البشر حاولوا النجاة بان يجذّفوا متعلّقين بقطع من الخشبٍ أو حتى سباحةً ، ولكن كانت نهايتهم الموت غرقاً، وهذا يطابق المحاولات الانسانية الذاتية بعيداً عن سفينة النجاة الحقيقية أي خلاص الرب يسوع وصليبه فكل عمل شخصي لاينبع من الايمان بالمسيح إنما هو محاولة فاشلة للتخلّص من الغرق في بحر الموت والخطية ، فلا نجاة إلا من خلال احتمائنا في الفُلك السماوي الرب يسوع المسيح لهُ المجد.
أيضاً الفلك يرمز للكنيسة التي بها وفيها نحتمي مِن العالم المائت الخارجي ، ومِن الخطية وهي (أي الكنيسة) سفينة نجاتنا وقائدها وربانها الرب يسوع لهُ المجد . وعبارة "وأغلق الرب عليه" (تك 16:7) لذات دلالة كبيرة ، على أن الرب هو الذي أغلق عليها ، أي سد كل أبوابها ومنافذها لئلا يدخلها أي شر أو خطر ، وهو "الراعي الصالح" الذي يقود سفينته الروحية إلى ميناء النجاة ... إلى الملكوت السماوي . وعلى هذا يقول رب المجد في (متى18:16): "وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها".
والفُلك يحتوي على ثلاث طوابق رمز إلى السماوات الثلاثة وأيضاً إلى إيمان الكنيسة بالثالوث الأقدس ، ودَور هذا الثالوث الواحد في جوهره في التدبير ألخلاصي.
والكوّة أو الفتحة ترمز إلى رجاء وإيمان الكنيسة بالحياة الثانية والسعادة الأبدية ، والعين الروحية المنتظرة والساهرة والمستعدة لمجيء المخلّص عريس الكنيسة العظيم.
ووجود باب واحد لاغير، هو إشارة على أنهُ لايوجد سوى باب واحد للنجاة والخلاص هو الرب يسوع لاغير القائل "أنا هو الطريق والحق والحياة" وقد قال كذلك في (يو7:10): "الحق الحق أقول لكم أني أنا باب الخراف.... إن دخل بي أحد فيخلص..." .
3- الحيوانات :- تنوّع الحيوانات واختلافها في داخل الفُلك رمز إلى التقاء الوحوش مع الحيوانات الأليفة، وهذا رمز إلى التقاء جميع الناس المؤمنين من كل القبائل والشعوب كافة ومن جميع الأجناس والأعراق واتحادهم جميعاً في جسد المسيح الواحد (أي الكنيسة)، وهذا يذكّرنا بما رآه مار بطرس في الرؤية ، كما يذكر الوحي في (أع 10:10-16): "فرأى السماء مفتوحةً وإناءً نازلاً عليه مِثلَ مُلاءةٍ عظيمة مربوطةٍ بأربعة أطرافٍ ومُدّلاةٍ على الأرض . وكان فيها كلُ دواب الأرض والوحوش والزحافات وطيور السماء.....".
أما أعداد الحيوانات الناجية أي (أثنين) ذكراً وأنثى فهو يرمز إلى التلاميذ الذين أرسلهم الرب يسوع أثنين أثنين لكي يكرزوا ، كما يرمزون كذلك إلى أن الخلاص صارَ مُتاحاً للجميع رجالاً ونساءً ذكوراً وإناثاً دون تمييز ، أما العدد السبعة ، فهو رمز إلى الكمال، أي بمعنى أن هذا الخلاص لامحدود ومقدَّم للكل ، أي خلاصاً مطلَقاًً يحصل عليه كل مَن يؤمن ويعتمد. والحيوانات الطاهرة رمز إلى الكهنوت الذي بواسطته يمكن للكنيسة من أن تمارس الأسرار المقدسة.
الباب الجانبي: رمز إلى جنب الرب يسوع الذي طُعِن بالحربة والذي سال منهُ دم وماء فصار باباً للحياة لكل من يؤمن ، فأروى الكنيسة وغسلها وطهرّها من الخطية والإثم، وهو يرمز كذلك إلى قبول الله بالمسيح الجميع دون تمييز فالباب لَم يوضع في المقدمة كدلالة على الناس المتنفذين والمتقدمين ، ولَم يوضَع في الخلف على الناس العاديين فقط ، بل مِن الجانب كإشارة على أن باب الرحمة والخلاص مفتوح أمام الكل.
4- القار:- يرمز القار هنا إلى الحماية الكاملة مِن قِبَل الرب للكنيسة ، وقوله في (تك15:6): "وتطليه مِن داخلٍ ومِن خارجٍ بالقار" دلالة على حماية الرب لكنيسته مِن داخلها، أي ضد الهرطقات والبِدَع ومِن المسيحيين المزيفين، ومِن الخارج ضد أعمال الشيطان الخارجية مِن خلال غير المؤمنين، ومِن المعلوم أن القار يستخدم من خلال صهره بالنار، وهذا رمز إلى عمل الروح القدس في الكنيسة.
5- جبال أراراط :- ترمز هنا إلى انتصار المؤمن بالمسيح والذي يسمو بالايمان و (الماء) المعمودية على الخطية، فيغلبها ويرتفع على شهواته فيرفعه الرب فوق "جبل قدسه" .
6- الغراب :- رمز إلى الموت والذي يعتاش على الجثث ، والهلاك الذي ينهي كل كائن حي.
7- الحمامة :- رمز إلى الروح القدس الذي حل في المؤمنين وخروجها إلى المياه رمز إلى عمل الروح القدس في المعمودية وفي تجديد البشرية إلى الحياة وهذا يذكرّنا بالآية الثانية في الاصحاح الأول مِن سفر التكوين: "وروح الله يرف على وجه المياه" ، فالروح القدس هو في استعداد دائم لتجديد الخليقة والعمل.
8- ورقة الزيتون :- رمز إلى السلام الذي فاض به الروح القدس ، من خلال خلاص المسيح الذي أنتشر بواسطة عمل روح الله في الرسل والمؤمنين .
9- المحرقة والعهد :- ذكر تقديم الذبائح والمحرقات ثم وعد الله مباشرةً بعدم تكرار الطوفان العالمي هو رمز وإشارة إلى ذبيحة المسيح الكفارية التي من خلالها ستنقذ الكنيسة من الغضب الآتي ودخولها في عهد جديد مع الرب .... هو عهد النعمة والسلام.
10- قوس قزح :- رمز إلى الصليب الذي ربط وصالح السماء بالأرض ، والله بالبشرية وأيضاً إلى نعمة المسيح المتفاضلة (المتزايدة) الكاملة ، إذ أن قوس قزح فيه الألوان السبعة والعدد سبعة يرمز إلى الكمال.
11- السحاب :- رمز إلى علامات غضب الرب ، والتي أظهرت ذلك الغضب في الطوفان عندما أمطرت حتى غرقت الأرض ، فالآن وبظهور القوس قزح في السُحب رمز إلى تلاقي عدل ورحمة الله في الصليب، فيبتعد غضب الله عن البشر بواسطة صليب المسيح (رحمة ومحبة الله).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ