قصة الطوفان وملحمة كلكامش
قُلنا في المحاضرة الثالثة أن بداية النقد العالي للكتاب المقدس بدأ في القرن السابع عشر على يد الفيلسوف اليهودي المولد سبينوزا ، إذ نفى نسبة التوراة لموسى النبي ، ولكن بقيت تلك الادعاءات ضعيفة إلى القرن التاسع عشر حينما أُكتشفت ملحمة كلكامش المعروفة عام 1853 وقد أعلن (جورج سمث) عام 1872 عن نبأ اكتشافه لقصة الطوفان البابلية.
ومنذ ذلك الحين عَلَتْ أصوات النقّاد ضد الكتاب المقدس. مدّعين أن التوراة أنما هي نسخة مطوّرة لتلك الملحمة البابلية على اعتبار التشابه الكبير بين قصتي الخليقة والطوفان، فهل هذا صحيح ؟
ملحمة كلكامش:-
دُونت قبل 4000عام تقريباً ، أي 2000 سنة قبل الميلاد وكُتِبَت باللغة الأكدية البابلية وتحكي موضوع أساسي هو حتمية الموت على البشر ، وكلكامش شخصية حقيقية – أسطورية ثلثاهُ مِن (الآلهة الخالدة) والثلث الآخر بشري كان في مدينة الوركاء الأولى مِن عصر السلالات (2800-22600ق .م) وهو خامس ملوك سلالة الوركاء الأولى ، ودام حكمه 126 عام وبعد وفاته حوّلته القصص الشعبية والتقليدية إلى بطل أسطوري مِن خلال ملحمة كلكامش وتحكي القصة بحث كلكامش عن الخلود من خلال صراع مع انكيدو الذي صار فيما بعد صديقهُ ، وتتألف الملحمة من 12 لوح طيني ، وقد عُثر على ألواح لهذه الملحمة ولكن بلغات أخرى وجاءت قصة الطوفان البابلية بصور عديدة وجاءت أسماء أبطالها على النحو الآتي ضمن اللوح البابلي والملحمة كاملة كان اسمه (أُتو – نبشتم) وباللغة السومرية كان اسمه (زيو- سدرا) وفي لوح بابلي آخر دُعي بـ (خيسثروس) ويأتي ضمن رواية بابلية أخرى باسم (أترا – حاسس) .
أسباب ربط القصتين:-
يذهب النقاد إلى ربط قصة الطوفان في كِلا المصدرين (أي الكتابي والملحمي) بل يؤكدون على تأثر (كاتب) التوراة بقصة الطوفان البابلية وذلك بناءً للأسباب الآتية:-
1- أن فترة كتابة ملحمة كلكامش بدأت قبل الميلاد ب2000 سنة وهذا يعني أنها سبقت التوراة.
2- وجود تشابه بين القصتين. وهذه التشابهات تعطي الدليل (حسب رأي النقاد) على أن التوراة قد استقت من تلك الملحمة.
3- وجود نسخ عديدة محوّرة وملاحم لنفس القصة مع اختلاف وتطوّر وهذه النسخ جاءت بلغات أخرى ولأمم أخرى.
وجود تقاليد ثلاثة رئيسية في التوراة، وهذه التقاليد هي تعبر عن حِقَبْ،أو مصادر جُمعَت فيما بعد لتكّون أخيراً التوراة.
وللرد على هذه الدراسات نقول:-
1- صحيح إن زمن كتابة وتدوين ملحمة كلكامش كان في بداية الألف الثاني قبل الميلاد. لكن هذه الملحمة هي عبارة عن أجزاء تبلغ 12، وهذه الأجزاء لَم تكتمل صيغتها النهائية إلاّ في حدود عام (1250) ق.م أي مابين العصر البابلي القديم والعصر الكشّي على يد الجامع والكاتب الكاهن الذي ذُكِرَ أسمهُ بهيئة (سين – ليقي – اونني) والذي ورد اسمهُ في إحدى نسخ الملحمة وهذا يعني إن اكتمالها كان بعد كتابة موسى للتوراة أي تقريباً مابين (1500 و 1300) ق.م ، وفي كل الأحوال لايمكن أن يكون موسى قد كتب التوراة متأثراً بهذه الملحمة كونه كتب وهو في برية سيناء البعيدة عن المدنية ، وثانياً لأنه كتب بعد خروجه مِن مصر، وهناك فرق بين كِلا الحضارتين الفرعونية وحضارة مابين النهرين العراقية.
2- هناك تشابهات بين قصة الطوفان البابلية وبين الطوفان التوراتي وهذه التشابهات هي:-
أ- إن الله في التوراة هو الذي أمر بالطوفان وفي الملحمة البابلية أن الآلهة أمرت بإغراق الأرض.
ب- أن نوح بطل الطوفان التوراتي و (اترا - حاسس) هو بطل الطوفان البابلي وكلاهما تم تحذيرهما مِن قِبَل السماء وإنذارهما.
ج- بَطَلَي الطوفان كلاهما نجا وعائلتهُ مِن الغرق بواسطة سفينة صنعاها وفق مواصفات الله أو الآلهة ، وأن يُصعِدا معهما الحيوانات لاستبقائها.
ء- كلاهما أُمِرا أنْ يطليا السفينة بالقار (تك 14:6).
هـ- في كِلا القصتين ذُكِرَت مدة الطوفان.
و- كُلاً منهما أرسل الطيور للتأكد مِن نقصان المياه.
ي- كليهما قدم ذبيحة أو قربان سواء لله في سفر التكوين، أو للآلهة في القصة البابلية.
ش- في كِِلا القصتين تُبارك السماء البطلين.
وردّاً على هذه التشابهات نقول:-
إنّ حدث عالمي كالطوفان وفي صميم التاريخ البشري لابد مِن أن يكون لهُ أبعاد على البشر، لذا فأن حادثة الطوفان المدّونة في كلا القصتين أي التوراتية والبابلية هي ترجع إلى ذات الحدث ولكن مع تغيير وتشويه بالنسبة لما ذكرتهُ ملحمة كلكامش ، وأما التوراة الموحاة فقد حافظت على دقة الأحداث بكل أمانة ، والدليل على ذلك الاختلافات بين القصتين ، فقلما يأخذ النقّاد بعين الاعتبار التباين بين القصتين، وهي المفتاح الحقيقي الذي يكشف كون التوراة هي التي يُعتَمَد عليها وأنها تحوي القصة الحقيقية والتاريخية للطوفان الكوني ، وهذه الاختلافات هي:-
أ- إنّ مِن أهم الاختلافات وأقواها بين الملحمتين هو عبادة الإله الواحد في الحكاية التوراتية ، بعكس القصة البابلية ومع أن العديد مِن الأمم والشعوب القديمة قد تأثرت بشكل أو بآخر بتلك الأقاصيص أو الحكايات، إلا أنها جميعها قد اتفقت في أمر مشترك ورئيسي وهو أن هناك آلهة متعددة قد تدخّلوا بشكل مباشر أو غير مباشر في الأحداث فلماذا لَم يتأثر اليهود بهذهِ الآلهة أو بعبادتها؟
والجواب :- إن كاتب التوراة الحقيقي ومِن ضمنها قصة الطوفان هو الله الواحد، فمثلاً تبدأ ملحمة (أترا – حاسس) في رواية الطوفان بـعكس طوفان نوح بـ: (حينما كان الآلهة مثل البشر) وهذه الفقرة وحدها كافية لتثبيت الفرق.
ب- في ملحمة كلكامش نرى الأسلوب الساذج والطفولي في سرد هذه الحكايات ، لابل أن حتى العلاقة بين تلك الآلهة تظهر على تلك الشاكلة، بينما في التوراة عموماً وفي قصة الطوفان خصوصاً نرى الأسلوب السامي والمترفّع عن الملابسات النفسية البشرية والارهاصات الفكرية والمخاوف الانسانية ونشاهد التعامل الجدي والمتوازن سواء بالنسبة للرب وأخلاقياته أو طريقة تعامل الله مع البشر ، وهكذا فأن التوراة تختلف حتى في أسلوبها عن أسلوب الروايات البابلية.
ج- تظهر سذاجة الآلهة في ملحمة كلكامش بحيث أن الآلهة أزعجها البشر وهي غارقة في النوم، فيقول انليل أحد أكبر الآلهة: (إنّ ضوضاء البشر قد ثقلت عليَّجذرياً بالنسبة لطوفان التوراة إذ يقول الرب القدوس بقلم كليمه موسى في (تك 5:6-6): "ورأى الربُ أنَّ شرَ الانسان قد كَثُرَ في الأرض ، وأنَّ كُلَّ تصور أفكار قلبهِ إنما هو شريرٌ كل يوم ، فحزن الرب .... فقال أَمحو عن وجه الأرض الانسان الذي خلقته" فأين هو ذاك التأثّر ؟ أنه لا وجود له.
ء- ذكرنا في المحاضرة السابقة أهمية أبعاد الفلك التي هي بنسبة 6:1 وهي النسبة الأفضل علمياً وعملياً في بناء السفن، ولكننا نجد الآلهة تأمر (اترا – حاسس) أن يبني الفلك بشكل مكعب طول كل ضلع فيه 120 ذراع أي بنسبة 1:1 وهذا يخالف المعطيات العلمية في بناء السفن كما يقول أيضاً في ملحمة (اتو –بنشتم) للطوفان الآتي : (وطول كل جانب من جوانب سطحها الأربعة مائة وعشرون ذراعاً) ، فما الذي جعل الكتاب يكون بهذه الدقة ، عكس ملحمة كلكامش؟
هـ- أوصى الرب نوحاً بأن يجعل كُوّاً في الفلك أي نافذة للتهوية، بينما لانجد هذا الأمر في الملحمة البابلية ، إذ أن جدران السفينة مغلق مِن كل الجوانب، وطبعاً نحن نتساءل كيف يمكن أن يبقى بطل الطوفان البابلي هو ومَن معهُ على قيد الحياة دون فتحة تهوية؟!
ك- الاختلاف الآخر الهام هو في أمرِ الرب لنوح بان يدخل اثنين اثنين من كل الكائنات البرية والطائرة لأجل استبقائها وسبعة أزواج لأجل استخدامها كطعام وقرابين ، وتُنتَقى من كل جنس فقط، وهذا مايجعل إمكانية حملها في الفُلك أمراً مقبولاً ، بينما لانجد هذا الأمر في ملحمة كلكامش ، ففي قصة الطوفان كما يرويها (أتو – نبشتم) يقول :- (وحملتُ فيها كل ماكان عندي مِن المخلوقات الحية ، أركبتُ فيها حيوان الحقل والبَر) .
س- الأمر الهام جداً والمختلف بين القصتين ، أنه في التوراة يذكر في (تك7: 17) التالي :- "وتكاثرت المياه ورفعت الفُلك ، فارتفع عن الأرض..." أي أن الفُلك وهو في مكانه ارتفع إلى الأعلى نتيجة المياه المتزايدة، فلَم يكن الفُلك بحاجة لأن يُجرّ إلى الأنهر لكي يسير أما في الطوفان البابلي فالأمر مختلف تماماً إذ يقول في طوفان (اتو – نبشتم) عن السفينة:- (وكان إنزالها إلى الماء أمراً صعباً فكان عليهم أن يبدلوا الأثقال في الطوابق العلوية والسفلية إلى أن غطس في الماء ثلثاها...) وهذا طبعاً يعطي الصورة الدقيقة على قوة كلمة الله المقدسة المدونة في الكتاب المقدس.
ر- مدة الطوفان في التوراة تختلف عنها في الملحمة البابلية ، فمدة الطوفان في التوراة دام سنة و10 أيام، بينما في ملحمة كلكامش يذكر أنها 7 أيام .
ف- ومِن أهم الاختلافات بين القصتين هو ماورد في (تك 20:8-21) :- "وبنى نوحٌ مذبحاً للرب وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقاتٍ على المذبح ، فتنسَّم الربُ رائحةَ الرضا" ولكننا نجد في ملحمة الطوفان البابلية (ملحمة اترا – حاسس) الآتي :( وجهز الطعام .. وشم الآلهة طعام الوليمة فتجمعوا كالذباب على القرابين...) فيا ترى أيهما المفترض أن يكون هو الأصل؟
وهناك العديد من الاختلافات الأخرى منها أن الكتاب المقدس يقول أن نوحاً أرسل حمامة وغراباً بينما الملحمة أن بطلها أرسل حمامة وسنونو وغراباً ، أيضاً أن التوراة تقول أن الفُلك كان ذا 3 طبقات أما الملحمة فتقول أنه مكون من 7 طبقات وغيرها وهذه كلها كافية لأن تنهي الرأي القائل بان التوراة استقت عن ملحمة الطوفان البابلية ، فكيف لَم يأخذ الكتاب المقدس بكل تلك الاختلافات خصوصاً وان مايختلف فيه الكتاب المقدس يجعل مِن القصة منطقية ومطابقة للعلم ومعقولة؟
3- إن وجود نسخ عديدة للملحمة ولقصة الطوفان، لايعني أن الكتاب المقدس قد أخذ من الحكاية البابلية فبالاضافة إلى ماذكرناه نقول:- أن تعدد نسخ وصور الملحمة – ملحمة الطوفان بين مختلف الشعوب هي ليست دليلاً ضد الكتاب المقدس بل معه، فقصة الطوفان منتشرة في مختلف الأساطير العالمية منها الصينية ، وتذكر أحداها أن اسم بطل الطوفان هو (نو – واه) وهو مقارب لاسم (نوح) لابل إن عدد الأشخاص الناجين في السفينة عددهم 8، وهذا يؤيد ماجاء في الكتاب المقدس ، وكذلك يوجد طوفان الاسكيمو في الآسكا وفي أمريكا توجد 58 رواية مختلفة عن الطوفان ، وفي تركيا وفي لبنان وغيرها من الأماكن ، وهذه كلها تسند وتدعم قصة الطوفان في الكتاب المقدس ، فاننا لو قمنا بدراسة كل تلك الأساطير لرأيناها مختلفة جميعاً مع قصة التوراة ، فكلها تحمل صبغة أسطورية واحدة رغم تعدد الأسماء أو الأساليب ، ولكن وحدها قصة الطوفان التوراتي تبقى بعيدة وسليمة عن كل تلك الخرافات المضحكة ، فما الذي ميزّ القصة الكتابية عن كل تلك الأساطير؟! إنه من المفترض أن تتطور تلك القصة عبر الزمان، ولكن صور تلك الملاحم الحديثة نسبياً متخلفة جداً عن صورة الطوفان في العهد القديم فما السبب ؟! إذاً فوجود نسخ عديدة لقصة الطوفان ليس دليل إلا لصالح قصة نوح الكتابية وليست ضدها .
4- يقول النقاد أنه يوجد في التوراة تقاليد ويقصد بالتقاليد مصادر شفوية أو مقاطع تحريرية تكوّنت عبر الزمن ثم جمعت فيما بعد ، وفي حالة التوراة يقول النقاد أن موسى كتب جزءً منها وآخرون يقولون أنه لَم يكتب أصلاً وأنها تتألف مِن تقاليد ثلاثة رئيسية أسموها التقليد (الالوهيمي، الألوهي) نسبة إلى (الوهيم) ومختصره E والمصدر الآخر هو التقليد (اليهوي أو جيهوفا) نسبةً إلى (يهوه) ومختصره أو رمزه J وأيضاً يوجد المصدر الكهنوتي P وهذه التقاليد الثلاثة يقول النقاد انه تم جمعها بعد السبي البابلي ، وهذه الدراسات كلها تعتمد الأسلوب التحليلي ليس إلا وهي خاطئة وسنفصلها في المحاضرات القادمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق