التوراة
الأيام السبعة للخليقة من الوجهة الروحية واللاهوتية
بالرغم مِن احتواء الأيام الأولى للخليقة على آيات تتوافق مع العلم والاكتشافات التاريخية، إلا أنها تبقى ذات بُعد روحي ولاهوتي بالدرجة الأولى ، فهذه هي غاية الكتاب المقدس الحقيقية:-
كما هو معلوم أن موسى هو كاتب التوراة ومن ضمنها سفر التكوين ، ولأن النبي موسى يكتب في زمن تمتلئ فيه العبادات الوثنية، فلابد أن يبدأ بهذه الآية مِن سفر التكوين "في البدء خَلقَ الله السموات والأرض" ليؤكد أن الله هو الخالق وهو الإله الحقيقي الوحيد وليس اله غيرهُ في الوجود ، وهو أساس كل الكون.
وعلى هذا يقول مار يعقوب السروجي([1]) (521+): "بعد أن خلق الله كل شيء من العدم ، كان العالم قد غرق في الضلال فعبد الخلائق كآلهة : عبد النار والماء والأجساد السماوية والعصافير والبهائم ، لهذا السبب حمل موسى مِن سيناء وحيه وقال : إن العالم له بداية وهو يرتبط بسيد يعود إليه كل سجود. وهكذا كشف القناع عن الخلائق التي اغتصبت اسم الله" ([2]) فالكتاب المقدس وبكل ثقة يتحدى كل علم كاذب وكل النظريات والفلسفات الإلحادية ويقول إن الله هو الرب وهو الخالق وصانع كل الموجودات المنظورة.
الأيام الستة تكشف عن الثالوث الأقدس!
إن الايمان بالثالوث الأقدس (الآب والابن والروح القدس) كعقيدة نشأ بانتشار الايمان المسيحي بناءً على آيات عديدة في العهد الجديد كقول الرب يسوع مثلاً في (متى 19:28): "فأذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدّوهم باسم الآب والابن والروح القدس".. أيضاً يقول مار يوحنا بالروح القدس في (1يو 5:7): "فان الذين يشهدونَ في السماء هم ثلاثةٌ الآب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد".. ولكن هذه العقيدة وإن نشأة متأخرة ، إلا أن حقيقتها هي أزلية، فهذه الحقيقة تتعلق بالله ، والله هو هو منذ الأزل. لذلك فان العهد القديم يضم إشارات على هذه الحقيقة، والأيام الستة للخليقة أيضاً تُعلمنا هذه الحقيقة (أي الثالوث الأقدس):
1- فنرى نحن في الآية الأولى أن الله هو خالق السموات والأرض (الثالوث الأقدس) ، ولكن الوحي يأتي في الآية الثانية ليبيّن هذا الثالوث إذ يقول : "وروح الله يرّف على وجه المياه" هنا يظهر الروح القدس، ثم يعقبهُ قول الرب في (ع3): "وقال الله ليكن نور فكان نور" :كلمة (قال) هي فعل ماضي والله الفاعل وعبارة (ليكن نور) هو أمر صادر مِن الله، ومِن الآية الأولى في سفر التكوين نعرف أن الله هو الذي نفذّ هذا الأمر، وكلمة قال، تعني أن هناك شخص فعل الفعل ، وبالمقابل لابد أن يكون هذا الأمر صادر وموجه إلى شخص، وإلا فما معنى القول أساساً ، وهذه العبارة تعني أن الآب هو الذي قال "ليكن نور" والذي نفذ الأمر هو الله الابن ، والابن صفته الولادة المستمرة لذلك فهو كلمة الله المنطوقة أو (المقولة) ، لذلك يقول يوحنا في (يو3:1-4)، "كل شيء به (بيسوع) كان وبغيره لم يكن شيءٌ مما كان ، فيه كانت الحياة والحياة كانت نورَ الناس" إذاً بيسوع كل شيء صار وخُلِق ، أي السيد المسيح هو الكلمة التي خَلقت كل شيء بعد أن اصدر الآب كلمتهُ فقال "ليكن" ويقول الرسول بولس في (عب2:1) عن يسوع: "الذي [الله] به أيضاً عَمَلَ العالمين..." إذاً فالآيات الأولى مِن سفر التكوين تعلن عن الثالوث الأقدس.
2- عندما أراد الله خلق الانسان في اليوم السادس قال في (تك26:1): "وقال الله نعمل الانسان على صورتنا كشبهنا.." فنرى هنا الله يتكلم عن نفسه بصيغة الجمع (نعمل) و (صورتنا) و(شبهنا) ، مع أن الله واحد كما يقر بهذا الكتاب المقدس ذاته: (خر 2:20) "أنا الربُ إلهك ... لايكن لك آلهةً أخرى أمامي...".
ورُب قائل يقول مقترحاً لماذا لانقول أن صيغة الجمع هنا يَدل على التعظيم وليس على صيغة الجمع؟
نقول رداً على هذا الاعتراض كالتالي:-
أ- لايوجد في اللغة العبرية صيغة التعظيم أساساً.
ب- إذا كان الله يعظم ذاتهُ هنا فلماذا لايُعظّم نفسه بعد هذه الآيات مباشرة عندما يكرر ولكن في (ع27 و 28): "فخَلَق الله الانسان على صورته على صورة الله خلقهُ ذكراً وأنثى خلقهم ... وباركهم الله وقال ..." ، هل أن الله متناقض ومتغيرّ وغير ثابت حتى أنهُ في مرة يعظم ذاته وفي أخرى لايعظمها!!؟
ج- هل الله بحاجة إلى تعظيم أساساً مِن نفسه؟ إن الرب بحد ذاته عظيم وعظمته تنبع من شخصه وعمله وكينونته ، وإن كان الله بحاجة للتعظيم فهذا معناه انه غير كامل حاشاه وهذا مناقض للمنطق والعقل.
* ونرى أيضاً أن أول شيء خلقه الله هو (النور): "ليكن نور" . وهذا يذكرنا بقول الرب يسوع "أنا هو نور العالم" (يو 12:8) والوحي يقول أيضاً عن يسوع في (يو 9:1): "كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتياً إلى العالم" وأيضاً عند ميلاد الرب يسوع يقول عنه الوحي بقلم مار متى في (متى 16:4): "الشعب الجالس في ظلمة أبصر نوراً عظيماً، والجالسون في كورة الموت وظِلالِه أشرق عليهم نورٌ" وغيرها من الآيات .. إذاً فالنور في سفر التكوين هو الأساس للحياة وهو يشير إلى الرب يسوع له المجد الذي هو النور الحقيقي الذي بدونه لاحياة ولاهدى.
* أظهر الله محبته مِن خلال خَلْقِه الكائنات الحية عموماً فالله كامل الصلاح والحبُ ونوع حبهُ ، حباً عملي ايجابي ، غير أناني ، لذا فقد أحب أن يعطي صفة الحياة التي يحياها هو ، فالله يفرح لابل يتوق بأن يهب الحياة للآخرين ، وعلى هذا يقول مار يعقوب السروجي: [ لَم يَخلق الله العالم ليملأ حاجة يحس بها ، ولكن لكي لاينعم وحدهُ ببهائه، ولذا دعتهُ محبته فأشرك خلائقه: الملائكة الذين يكرمونهُ ويمجدونه ، وآدم صورته الذي تخدمهُ كل الخلائق المدنية ، وحبهُ كبير بحيث انه خلق مِن لاشيء شيئاً يشبهه ]
ثم أظهر تلك المحبة الخصوصية للانسان حتى انه خلقهُ في النهاية بعد أن رتّب لهُ كل شيء واوجد مسكنهُ الأرضي الكبير، ليجعلهُ أميراً ومتسلطاً على كل تلك الخلائق فأية محبة تلك التي أحاطه بها الرب القدير. والأكثر مِن هذا أن الله خلق الانسان على صورته (تك26:1) وشبهه ، بمعنى انه له المجد ، قد أعطى الانسان جميع صفاتهُ أي إن الانسان صار صورة مصغرة لذاك المطلق الصالح والكامل ، لكن هناك فرق بين قولنا أن الانسان على صورة الله وبين القول صورة (رسم) جوهر الله ، فالثانية تعني انه معادل لله وهذا لاينطبق إلاّ على يسوع وعلى هذا يقول الوحي في (عب3:1): "الذي (يسوع) وهو بهاء مجدهُ وَرَسم جوهرهِ" إذا فيسوع هو وحده صورة جوهر الله ، أما الإنسان فهو على صورة الله ، أي حامل نفس صفات الله ولكن بشكل محدد بعكس يسوع المطلق إذ يقول عن الرسول بولس في (كو 19:1): "لأنه فيه (يسوع) سُرَّ أنْ يَحُلَّ كلُ الملء" .
* آدم وحواء كانا يمثلان الجنس البشري كما يقول في (تك 27:1-28): "صورة الله خلقه ذكراً وأنثى خَلَقهم ، وباركهم الله وقال لهم ...الخ" فنرى الله يكلم آدم وحواء (الاثنين) بصيغة الجمع ، وهنا يعبر الله عن احترامهِ للبشر مِن جهة ، ومِن جهة أخرى يعتبر أن آدم ممثل للجنس البشري بخيره أو شره.
* اليوم السابع وراحة الله:- (تك 2:2): "فاستراحَ في اليوم السابع مِن جميع عمله الذي عمل" والسؤال هنا هو : هل الله يتعب أساساً حتى يسترح؟!
الرد:- كما هو معلوم إن سفر التكوين قد كُتب أصلاً باللغة العبرية، وكلمة (استراح) في اللغة العبرية هي (شاباث) أي الكف والانتهاء مِن العمل وليس الراحة بمعناها الحرفي والمعروف ، لذا فان هذه العبارة لاتتناقض مع طبيعة الله العظيمة.واليوم السابع والراحة يرمز إلى التالي:-
أ- اليوم السابع وبما انه لايُذكر له نهاية (وكان مساء وكان صباح يوماً سابقاً) فان هذا يعني أن اليوم السابع رمز وإشارة الحياة الأبدية التي هي مع الله ، والخلاص اللامحدود الذي صنعهُ الرب يسوع المسيح ، الذي قال وهو معلّق على الصليب "قد أُكمِل" فالرب يسوع هو الذي قد أَكمَل هذا اليوم مِن الناحية الروحية والمجازية.
ب- الراحة والانتهاء من العمل يرمز إلى عمل المسيح على الصليب وموته ألكفاري الفدائي عن الانسان والذي انتهى من العمل ألخلاصي والمواعيد الالهية السابقة ، لذا فقد صرخ قائلاً "قد أكمل" لقد انتهى الرب يسوع مهمته في خلق الانسان الروحي من جديد ، لذلك يقول الرسول بولس "إن كان احد في المسيح فهو خليقة جديدة الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديداً" وأيضاً قول الرب يسوع نفسهُ يقول في (يو4:3): "إن كان أحدٌ لايولد مِن فوق لايقدر أن يرى ملكوت الله". ويوم الراحة (السبت) اليوم السابع ليس يوماً حرفياً ، بل يوماً روحياً أبدياً وماوصية السبت في العهد القديم إلا رمزاً ليوم الراحة الأبدي ، أنه يوماً أبدياً ابتدأ منذ موت الرب يسوع وقيامته، أنه يوماً لانهائياً ، لذا فالمسيحية تعتبر أن كل أيام المؤمن الحقيقي يوم سبت، أي أيام مقدسة مِن خلال الايمان والأعمال الصالحة.
فالمسيح تعب على الصليب واستراح في يوم قيامته المجيدة العظيمة والتي بواسطتها أراح البشرية من الموت والخطية.
أما جنة عدن فترمز إلى العلاقة الروحية مع الله والى الملكوت السماوي والكنيسة ، والأنهار الأربعة ترمز إلى البشائر أو الأناجيل الأربعة التي تسقي الكنيسة وترويها وتحييها والذهب رمز إلى المُلك الذي يعطيه الرب يسوع إلى شعبه ، أي المُلك والسلطة على الخطية والشهوة ، فقد جاء في (1-بط 9:2): "وأما انتم (الكنيسة) فجنسٌ مختار وكهنوت ملوكي أمةٌ مقدسة شعب اقتناء.." والأحجار الكريمة ، رمز إلى الفضائل والأعمال الصادرة مِن الايمان والتي تمجد الله ، والأشجار المغروسة رمز إلى الكنائس والمذابح المقدسة ، والى المؤمنين الذين يستقون من تلك المياه العذبة والأرض الخصبة من كل تعاليم الانجيل والكنيسة فيثمرون أشهى الثمار الروحية.
· أما خلق الله لحواء مِن ضلع آدم فهو رمز ونبوة عظيمة جداً على موت وخلاص الرب يسوع له المجد وفداء كنيسته المجيدة من جسده الطاهر ودمهُ الأقدس وعلى هذا يُعلق مار يعقوب السروجي قائلاً : ( كوّن الله آدم من تراب وماء ، أما حواء فخرجت مِن لحم آدم وعظمه ودمه، غرق في رقاد عميق وهنا وجدت أسرار الصلب صورتها المسبقة، فتح الجنب يدل على الحربة التي دخلت في جنب الابن الوحيد والرقاد يدل على موت المصلوب ، والدم والماء يدلان جمال المعمودية .. اخرج الخالق ، مِن آدم خلال رقادهُ ، حواء التي ستكون حضن هذه الأجيال... ) إذاً فكما خرجت حواء (عروس) آدم من سُبات ونوم آدم . كائناً جديداً كاملاً ، هكذا الكنيسة عروس المسيح والتي وُلدت مِن جسد عريسها وموته وسفك دمهُ لهُ كل المجد ، وعلى هذا يقول الرسول بولس في (افس 25:5-28): "أيها الرجال أحبوا نساءَكم كما أحبَّ المسيح أيضاً الكنيسة واسلم نفسهُ لأجلها، لكي يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة ، لكي يُحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من ذلك بل تكونُ مقدسة وبلا عيب". لذلك ففي النهاية سيصبح الاثنان جسداً واحداً يسوع والكنيسة، كما يقول الرسول بولس في (رو5:6): " لأنه إن كُنّا قد صرنا متحدين معهُ بشبه موته نصير أيضاً بقيامته" وأيضاً يقول الوحي في (1-كور 27:12): "وأما انتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفراداً".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) ولد عام 451 وتخرج من مدرسة الرها درس الفلسفة واللاهوت وغيرها، ثم ترهب وتنسك ارتجل قصيدة سريانية وهو في الثانية والعشرين من عمره بحضور خمسة أساقفة فمدحوهُ ، ثم سيم كاهناً ثم نصب أسقفا على أبرشية يطنان سروج عام 519م ثم نقلت رفاتهُ إلى مدينة ديار بكر في تركيا ، يقول ابن العبري إن سبعين ناسخاً كانوا يكتبون قصائد مار يعقوب فلما جمعت بلغت 760 وهذه القصائد (الميامر) تتناول شرح أهم أحداث العهدين القديم والجديد، والبحث في الايمان والفضائل والتوبة والقيامة العامة وشكر وحمد الله على المائدة والموتى وتقريظ العذراء والرسل والشهداء والكنيسة تستخدم في صلواتها اليومية كافة مياميره (اللؤلؤ المنثور للمثلث الرحمة البطريرك افرام برصوم).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق